يروى بأنه كان هناك طفلين أخوين في الرابعة والخامسة من عمرهما, وبسبب تقاربهما بالسن كانا متآلفين بالفكر فيما بينهما, وكانا يتخذان للعب طرفا من حديقة المنزل مرتعا يلعبان سويا, وكان لهما أخ كبير فأراد أن ينضم إليهما ويشاركهما في اللعب, والذي حصل هو أنه عندما أتى ليلعب معهما رفض الأخوة الصغار هذه الشراكة وذلك لحسن تقديرهما بأن فارق السن يحمل في طياته فارق الفكر, وهذا الفارق بالطبع سينتج عنه عدم التجانس والتآلف فيما بينهما ولو كانوا إخوة.
ولكن الأخ الأكبر وباستعلاء واستكبار أصرّ على اللعب معهما وراح يمارس بفارق السن السلطة عليهما لعلمه أن بفارق السن يستطيع أن يتغلب الكبير على الصغير ويصبح رأيه مسموع وأمره مطاع, ومع علمه بكل ذلك إلا أنه جهل في المقابل بأنه لن يستطيع أن يكسب ودّهما وينال رضا إخوته الصغار ولو رضخوا له بالموافقة للعب معهم وذلك لانعدام التجانس وروح التفاهم ما بينهما..
وتشاجروا فيما بينهما وتعالت الأصوات بسبب رفض الإخوة الصغار لذاك الواقع المرفوض لديهم.. وهنا تدخلت الأم قاضياً وحكما.. ورأت بأن تمارس من خلال سلطتها التنفيذية على أن تجبر الصغيرين بأن ينضم الأخ الأكبر إليهما ويلعبوا معاً, ومن خلال سطوة الأم وبالإكراه انضم الأخ الأكبر وهو في نشوة الانتصار ليلعب معهما.
وبالتأكيد رضخا الصغيرين للأمر وبامتعاض من تطفّل الأخ الأكبر.. والأكثر من ذلك هو أنهم شعروا بالمهانة من جراء تسلط الأم وإجبارهم على أمر لا يطيقانه بالإكراه.
والذي حصل بأنه قد تولد بداخل الصغيرين كره ونفور لأخيهما الأكبر, وبالطبع فإن هذا سيتحول مع مرور الأيام إلى عداوة وبغضاء ومن ثم إلى أحقاد دفينة..
وهنا وعلى عتبات الهزيمة تعالت صرخات من داخل الصغيرين في صمت وانكسار.. نحن صغار وضعاف وأنتم كبار أقوياء ولكن الله أكبر وأقوى من كل شيء.. أما تعلمون يا هؤلاء بأن الله قد شرّع بقول: { لا إكراه في الدين }. وها أنتم تمارسون الإكراه فينا وتفرضون قوانينكم وتجبروننا عليها.
أنتم أيها الكبار لا تعرفون كيفية حسن التصرف معنا كما نعرفه نحن الصغار مع بعضنا.. ولو أنكم تمتلكون القوة والغلبة.. إلا أنكم في الوقت نفسه تفتقرون للحكمة وحسن التدبير بدليل أنكم أوّلتم التسلط عدل والظلم انتصار..
تعاملوننا بأننا كدمية تحركونها متى وكيف تشاءون.. لا..وألف لا.. نحن غير ذلك.. نحن لدينا المصدر الذي نستقي منه المعرفة بالفطرة كما خلقنا الله عليها وبعفوية وتلقائية.. وأنتم تقيّمون هذه العفوية بأنها غير عاقلة وليست ناضجة وتنقصها الخبرة.. يا سبحان الله..قل أأنتم أعلم أم الله..
نحن لا يهمنا تقييمكم ولا نريد منكم الخبرة.. نريد فقط أن نلعب كيف نشاء.
ومن الضروري يجب عليكم أن تعلموا بأننا عندما نناديكم بالكبار فهذه مذمّة بكم ومذلة لكم وليس بمكرمة ولا مديح.. أنتم بامتلاككم العقول غير قادرين على أن تفهموننا.. نحن عندما نتشاجر فيما بيننا فهذا يجعلنا نقترب من بعضنا أكثر, فأما أنتم وكلما اقتربتم من بعضكم تتفرّقون وتتباعدون أكثر.
عالمنا نحن الصغار فطري وأكثر سماحة.. وعالمكم أكثر ظلما وتجبرا وشريعة غاب.
نحن نملك ما لا تملكون ونعرف ما لا تعرفون.... خذوا منا وخذوا عنا نحن العارفون من قبل أن نصبح مثلكم جاهلون.. خذوا منا وعنا واعملوا به حتى إذا ما كبرنا نكبر ونبقى كما نحن عارفون.
انظروا إلى من يمثلنا في عالم الطير وهو "الهدهد" كيف أن هذا المخلوق الصغير قد أحاط بما لم يحط به سيده وجاءه بالنبأ اليقين, ومن خلال معرفته بربه أنكر على الناس فعلهم وعرّفهم بأن دنوا منزلتهم بتكالبهم على الدنيا حتى تسلطت عليهم, والهدهد الفهيم يعلم يقينا بأنه يسجد لله من في السماوات والأرض.. أفغير الله يبغون هؤلاء الجاهلون وله أسلم كل شيء وهو الذي يستطيع أن يستنقذ ما سلبته الذباب.
يا أيها الكبار: نريد أن نقول لكم كلاما آملين أن تتسمعوا إلينا وتعوا.. هذا ما قلناه وما سنقوله ليس من عندنا.. إنما نحن رسل ربنا إليكم وأمانته بين أيديكم.. فاتقوا الله فينا وأحسنوا إلينا ولأنفسكم.. خذوا منا وعنا ولو أنكم كما تزعمون بأنكم عاقلين.. إلا أنه يجب عليكم أن تكونوا معنا متعلمين ومتأدبين.. لا تنظروا إلى أفعالنا لتضحكوا بل لتتعلموا.. كم من العلم والحكمة يذوبان بالضحك وبعدم المبالاة كما تذوب المعرفة بين الجاهلين وتنحسر شهامة العدل بتسلط المفسدين وتتهشّم كرامة المظلوم بجبروت الظالم...
أيها الكبار: نحن الآن حديثي العهد بربنا وبالفطرة التي فطرنا الله عليها, وكل ما نرجوه منكم هو: أن تساعدوننا على أن نبقى على عهدنا الذي قطعناه على أنفسنا مع ربنا بأن نكون كما يريد..
إلا أننا وللأسف نسمع الواقع يصرخ صرخة ألم ملئها الحزن والأسى كدمية أصابتها وحشة الغربة وأسكتها فزع طلوع النهار..
وبتنا نحن نخاف أن نكبر ونجد أنفسنا على غير ما نريد وما لا يريد خالقنا وسط هذا العالم المعتم.
اللهم إنا نتوجه إليك بضعفنا وحزننا وبقلة حياتنا.. ونشكو إليك اللهم أهلينا وتسلطهم علينا وأنت تعلم بأننا لا حول ولا قوة لنا إلا بك..
اللهم أحينا كما تحب ونجنا ممن لا تحب..
**************