غزوة بدر
لم تكن قريش ولم يكن العرب يتوقعون اندحار المشركين في معركة بدر، إذ في ساعة تخسر قريش سبعين رجلا من رجالها وسبعين أسيرا، ويلوذ الباقي بالفرار مخلفين للمسلمين شتى الغنائم، وتعود قريش ذليلة نحيلة خاسرة خاسئة مقهورة منكسرة، وأمام هذا الأمر الذي لم يكن بالحسبان استأنفت إرادة الله تنسيقها السماوي فامتلكت مصير المعركة وحسمتها لصالح المسلمين، وكان للدعاء دور كبير كما تقول الآية:
(إذا تستغيثون ربكم فاستجاب لكم، اني ممدكم بألف من الملائكم مردفين) وفي آية آخرى (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ففي بدر حقق المسلمون أول انتصار لهم على جبهات الشرك والجهل، ولعل شهر رمضان المناسبة الفضلى لتنفيذ وإجراء هذه المهمة القتالية فهو الشهر الذي تتغلب نزعة الإنسان الشهوانية على ذاته وبسواها لم يحقق الإنسان انتصاراته على جبهات القتال.
وفي شهر رمضان هناك موسم جهادي لشتى معارك إسلامية فالمسلم في هذا الشهر يرتقي إلى درجة المسؤولية التي حملت على عاتقه، فموسم الصوم مدرسة لتخريج أفضل المقاتلين وأفضل المجاهدين الذين بإمكانهم التعامل مع قضايا الحياة بروح مستعدة وفي شهر رمضان يعي المسلم دوره الطليعي لتسلم اعباء الرسالة وفيه يتشعب المسلمون بين من يحمل صفة المقاتل ومن يحمل روح المقاتل.
فعودا على بدأ: تعتبر غزوة بدر الكبرى، أول مواجهة وقعت بين المسلمين والكفار، وكانت الغلبة فيها للمسلمين، مع قلة عددهم وعتادهم، وبالنظر لأهمية التجارب المستفادة منها كانت حرية بأن تحيى، لنستقي منها الدروس والعبر من زاوية تاريخية مختلفة سيما وانها قد وقعت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية للهجرة جاعلة لهذا الشهر طعم الجهاد والمعاناة والصبر والمقاومة ومن أهم ما يستفاد من هذه الغزوة الكبرى هي الإثارات الربانية التي خلفتها وأهمها، دور الطاعة والانضباط ودورهما في تحقيق الفوز والنصر، مع قلة العدد الذي كانت تشكو منها قوات المسلمين، ومن إثارات وآثار هذا الفوز الساحق هو دور العناية الإلهية باعتباره عاملا أساسيا من عوامل هزيمة المشركين امام القلة من المسلمين ولعل أهم أسباب هزيمتهم هي:
اعتمادهم على القوة المادية واللاروحية وكفرهم وشركهم بالله والعنجهية والمكر والكبر الذي أخذ يراودهم أمام النبي وأصحابه ومن حصيلة ما يستفاد منه في هذه المعركة هو الروح الجهادية التي سايرت المسلمين آنذاك والتي يفتقدها بعض المسلمين في عصرنا الحاضر وهم يواجهون قوى شيطانية عديدة، بعنجهية تضاعف عنجهية أجدادهم وعلى رأسها الصهيونية الحاقدة.
فالروح الجهادية وروح الإيثار التي تجلت عند المسلمين في الصبر على الآلام ومقاتلة الأهل والعشيرة فهي ظاهرة جديدة عند العرب الأوائل الذين كانت تحركهم القبيلة والقرابة والدم فهي نقلة نوعية مهمة جدا جعلتهم ينتفضون على نهج الجاهلية ومفاهيمها البائدة وينطلقون إلى شرف الإسلام وكماله.
وما يمكن ان تذكره في هذا الجانب هو، الشجاعة التي اتصف بها القائد آنذاك أي رسول الله صلى الله عليه وآله وساعده الأيمن على ابن ابي طالب عليه السلام فهذه صفة وسمة تمثلت في الرسول وابن عمه وأهل البيت (ع) حيث لعبت كل الدور في الغلبة على فلول الكفر وهنا لا يخفى اثر الدعاء والإرتباط الروحي الذي حمل مسؤوليته المسلمون وخاصة الرسول الأكرم، حيث وقف (ص) بين يدي ربه طالبا منه ان ينزل عليه وعلى جنده شآبيب رحمته: (اللهم ان تهلك هذه الفئة فلا تعبد) ويصور القرآن هذا الامداد الإلهي ويقول في انتصار فئة قليلة غير متكافئة على فئة كثيرة بإذن الله، هكذا: (واذكروا إذا انتم قليل مستضعفون، تخافون ان يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات، لعلكم تشكرون).
ولعل أثر الصوم في النصر في معركة بدر يمثل جانبا مهما أيضا وهذا يبحث في دائرة الحرب التي يجب ان يعتمد فرسانها على خشونة العيش والصبر على المكاره وهذه من تجليات صوم شهر رضمان حيث يتصدى الصائم للتحكم النفسي على الروح ويقف أمام نشوة اللذة الزائفة والزائلة فغزوة بدر الكبرى هي في المجموع كانت بداية لمرحلة جديدة في الاعتماد على القوة للدفاع عن الدين والنفس، وبرهنت أيضا للتاريخ ان الحرب في الإسلام ذات أهداف دفاعية وليست هجومية وان الإسلام لم يقف على السيف والعنف الا إذا دعت الحاجة الاضطرارية لذلك فهناك السيف المشرف والعنف المقدس فالإسلام شرع الجهاد والحرب للقضاء على أولئك الذين يتخذون موقف العناد منه، ومن هنا يكون الجهاد ضروريا بحكم الشرع والعقل ففيما لو شن الأعداء الهجوم على المسلمين أو التآمر عليه وقد كان الدفاع لمواجهة الأعداء في أكثر معارك النبي مشروعا عقلا وفطرة، وقبل ان نطوي ملف صفحة غزوة بدر الكبرى لا يخفى ان نذكر الدور الرئيسي الذي لعبه الإمام علي (ع) في حسم النصر للمسلمين، فهناك أكثر من مصدر ومصدر تاريخي يذكر ويشهد بضربات سيفه القوي ومواقفه البطولية والجهادية حيث كان يزأر كالأسد وكالعاصفة التي تلف حشود العدو ويطويها ثم يمزقها تمزيقا فما هرب من ميدان بدر وما ولى، حتى عد التاريخ ان نصف قتلى المشركين كانوا على يد علي (ع) وما من جريح مشرك يعود إلى الخلف الا وكان يقول ضربني علي ضربني علي فسلام الله على علي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.
تاريخ معركة بدر
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (الأنفال: 1).
يظهر من سياق الآية أن هناك تنازعاً قد حصل بين بعض المسلمين الذين اشتركوا في حرب بدر، وسبب النزاع هو اختلافهم في الغنائم وهو أمر غريب إذا قيس مع روايات أهل السنة الذين جعلوا أهل بدر في رتبة العصمة أو شيء من هذا القبيل، وقد نقل روايات تخاصمهم الطبري في تاريخه والواقدي في مغازيه وابن هشام في سيرته.
فسياق الآية شديد اللهجة (فاتقوا الله) (وأطيعوا الله ورسوله) والتقوى والطاعة لا يأتيان من كل أحد، بل الأمر منحصر في المؤمنين فقط ولذا جاء ذيل الآية (إن كنتم مؤمنين).
ولا يبدو الأمر غريباً للغاية لو تتبعنا نفسية بعض المسلمين الذين اشتركوا في بدر من خلال النصوص القرآنية.
فقوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبيّن كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) (الأنفال: 5-6).
فالذين تحركوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحو معركة بدر لم يكونوا - بعضهم - يعتقدون بنبوّته ورسالته ولذلك فهم (كارهون) لهذا الخروج و(يجادلونك)، ومع كل هذا تمثّلت نفسياتهم بالخواء و الجبن والتراجع والخوف كأنهم يساقون إلى الموت!!.
وأما عن أمانيهم وتطلعاتهم وخلجات قلوبهم فهي كما صوّرها القرآن العظيم: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم..) (الأنفال: 7).
فقد كانت نفوس بعضهم تميل إلى حبّ الدنيا والحصول على الغنائم والمتاع، وتكره الحرب (ذات الشوكة) في سبيل الله تعالى. ولكن أراد الله تعالى بحكمته الأزلية أن يخوض هؤلاء حرباً ضروساً مع قريش، وهكذا بدأت الحرب.
كما صوّر القرآن الكريم حالة هذا الفريق الخائف عندما رأى جيش المشركين بقوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرَّ هؤلاء دينهم..) (الأنفال: 49)، وكلامنا حول (الذين في قلوبهم مرض) وهم فئة أخرى غير المنافقين، فقد تكلم القوم عن مكنون نفوسهم وعن كفرهم الباطني؛ إذ اعتبروا النبي (صلى الله عليه وآله) وجماعة المسلمين قد غرّهم دينهم!! وهم بذلك أصبحوا أشدّ قبحاً وبشاعة من المشركين والمنافقين.
ولم يكتفوا بكل ذلك فحينما انتهت الحرب أشار بعضهم على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يفدي أسرى الكفار ولا يقتلهم!! طمعاً منهم في عرض الدنيا، وهو مما أغضب الله ورسوله، قال تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة).
إذن وصلنا إلى نتائج مهمة وهي:
إن هناك جماعة – غير المنافقين- من المسلمين كرهوا الحرب منذ البداية وجادلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك.
إن حبهم للدنيا أكثر من حبهم للقتال في سبيل الله.
أشاروا بمنع قتل الأسرى مع أنهم من أئمة الكفر طمعاً في عرض الدنيا.
هذا ما تكلمت عنه آيات الذكر الحكيم.
والسؤال: من هم هؤلاء؟.
أولاً: أما بالنسبة لكراهية الحرب فقد ذكر الواقدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استشار أصحابه في حرب بدر، فلما وصل الكلام إلى عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إنها والله قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت، والله ما آمنت منذ كفرت، والله لا تسلم عزها أبداً، ولتقاتلنك فتأهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته.
واكتفى ابن هشام بقوله: فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن...
ولكن لم يرق كلامها رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى قام إليه المقداد وقال: امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا)، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ثم قامت الأنصار وقالت مقالة المقداد، فسر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فيظهر أن الذي كان يكره الحرب هو أبو بكر وعمر بن الخطاب.
ثانياً: وأما الذين كانوا يحبون الدنيا وعرضها ويكرهون القتال في سبيل الله فبالإضافة إلى أبي بكر وعمر تظهر لنا شخصية أخرى ألا وهو عبد الرحمن بن عوف، فقد نزلت فيه: (ألم ترَ إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أوأشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً).
ثالثاً: وأما من أشار على النبي (صلى الله عليه وآله) بأخذ الفداء وعدم قتل الأسرى فهو أبو بكر، فقد ذكر الطبري في تاريخه مسنداً..: (فلما كان يومئذ شاور رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر وعلياً وعمر –حول الأسرى-، فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان!! فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة..).
فأبو بكر يقدم الأواصر النسبية على الإيمان والتوحيد، ويعتبر المشركين إخوانه وأبناء عمه أو عشيرته وهو خلاف صريح لكثير من الآيات القرآنية، ولهذا السبب نزلت الآية في أشد تهديد له: (لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
وعلى هذا الأساس القرآني والروائي الثابت عند أهل السنة تثبت عدة حقائق وتسقط عدة مفتريات.
فأما التي تثبت:
أن أبا بكر كان من جملة الكارهين للحرب والذين هلم أطماع رهيبة في المال والمتاع، وقد اشترك معه عمر في بعضها.
كان للأنصار –ولا سيما للمقداد وسعد بن معاذ- دور رائع.
وأكثر منهم بطولة وإقداماً هو الإمام علي (عليه السلام) وحمزة وعبيدة بن الحارث الذين قدمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل الحرب في المبارزة الانفرادية.
كان في جملة المشاركين من المسلمين في حرب بدر،المنافقون والذين في قلوبهم مرض –المشار إليهم في النقطة الأولى-. وبهذا لا يبقى لهذا الرقم (313) أي قداسة أو شيء من هذا القبيل.
وأما التي تسقط فهي:
روايات العريش وأن أبا بكر كان مع النبي (صلى الله عليه وآله) في العريش.
القداسة المزيفة التي صنعها بنو أمية لجميع أهل بدر، بل تثبيت القداسة للذين أطاعوا الله ورسوله وجاهدوا وقاتلوا بلا كره ولا طمع.
سقوط أي فضيلة مدونة في كتب أهل السنة لأبي بكر أو عمر أو عبد الرحمن في معركة بدر لتعارضها مع القرآن والنصوص الصريحة في ذلك.